سورة لقمان - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


{الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} جملة من مبتدأ وخبر، والتقدير: تلك هى آيات الكتاب الحكيم.. والمشار إليه، يمكن أن يكون {الم} بمعنى أن آيات الكتاب الحكيم، مؤلفة من هذه الحروف المقطعة، التي لا مفهوم لها عندكم.. فمن هذه الحروف وأمثالها جاء نظم القرآن على هذا الأسلوب المحكم المعجز.. إن مادة القرآن هى تلك الحروف المقطعة، وهى بين أيديكم أيها الناس عامة، وأيها المشركون الضالون خاصّة، فأقيموا منها آيات كآيات هذا القرآن، إن استطعتم، ولن تستطيعوا.. ويمكن أن يكون المشار إليه ما تقدّم من آيات القرآن في سورة الروم، وفي غيرها مما كان قد نزل من القرآن.. والإشارة إلى الآيات، تنويه بها، وإلفات إلى جلال قدرها، وعلوّ سلطانها.
قوله تعالى: {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} أي أن هذا الكتاب الحكيم الذي جاءت آياته على هذا النظم المعجز المحكم، قد أنزله اللّه سبحانه لهداية الناس ورحمتهم.. فقوله تعالى: {هُدىً} مفعول لأجله، وقوله تعالى: {وَرَحْمَةً} معطوف عليه.
وخصّ المحسنون بالتزود بما في الكتاب من هدى ورحمة، لأنهم هم الذين يردون موارده، وينتفعون بما يقدرون على تحصيله وحمله من هداه ورحمته.. أما غير المحسنين، وهم الضالون والمكذبون، فإنهم لن ينالوا شيئا من هدى هذا الكتاب ورحمته.. شأن الكتاب في هذا شأن كل خير بين أيدى الناس، لا يناله إلا العاملون، الذين يسعون إليه، وينقّبون عنه، ويأخذون الوسائل التي تمكنهم منه.. فما أكثر الخير المخبوء في كيان الطبيعة، وما أقلّ الذين طرقوا أبوابها، وفتحوا مغالقها، وعرفوا أسرارها.
والمحسنون، هم أهل الإحسان في القول والعمل.. وهو إحسان مطلق، يتناول كل شىء.. فكل شيء مهيأ لأن يلبس ثوبا من القبح أو الحسن، والإنسان هو الذي ينسج له الثوب الذي يلبسه إياه.. وهكذا يتنازع الناس هذين الوجهين من كل شىء، فيذهب بعضهم بالحسن الطيب من الأشياء، على حين يذهب آخرون بالقبيح الرذل منها.
والحسن هو الحسن، في القول والعمل، وفي أمور الدنيا والدين جميعا.
ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى الإحسان دعوة مطلقة، غير محصورة في أمر، أو جملة أمور، بل إنها دعوة تتناول الأمور كلّها، وتشمل ظاهر الإنسان وباطنه جميعا، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [195: البقرة] ومن الإحسان، التقوى، وهى تجنّب الإساءة.. وذلك أن من تجنب السيّء من الأمور، فإنه يكون على إحدى منزلتين: إما أن يفعل الحسن، المقابل لهذا السيّء الذي تجنّبه، وهذا هو الأحمد، والأحسن.. وإما ألا يفعل شيئا، وإن كان بتجنّبه القبيح، قد فعل شيئا، وهو تجنب هذا القبيح، وقد كان من الممكن أن يفعله.. وهذا الفعل- وإن كان سلبيا- هو حسن في ذاته وحسب الإنسان منه أن يكون قد احتفظ بفطرته على السلامة والبراءة.
ولا شك أن هذه منزلة دون المنزلة الأولى، منزلة المحسنين العاملين، حتى لقد أنكر بعض الحكماء على أهل زمانه أن يكون حظهم من الإحسان هو ترك القبيح، فيقول:
إنّا لفى زمن ترك القبيح به *** من أكثر الناس، إحسان وإجمال
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
هو بيان للإحسان في منزلته العليا، التي يتجاوز فيها المحسن ترك القبيح، وتجنب السيّء، إلى مباشرة الإحسان، والتلبس به، فكان من أعمالهم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وفي قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} إشارة إلى أن إقامتهم الصلاة وإيتاءهم الزكاة، ليس عملا تلقائيا، وإنما هو عمل مرتكز إلى عقيدة، هى الإيمان باليوم الآخر، بعد الإيمان باللّه، إيمانا محققا، مستيقنا، لا يتلبس به شك أو ارتياب. وبهذا الإيمان الوثيق الذي يقوم في ظله العمل، يجىء العمل على صفة كاملة، حيث يعطيه المرء كل مشاعره، فلا يلحقه ضعف أو فتور.
وقصر الإشارة هنا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من بين جميع الأعمال الحسنة، للدلالة على أنهما رأس الأعمال الحسنة كلها، والقطب الذي يدور عليه كل حسن.
فالصلاة رياضة للنفس، وإعداد لها لتقبل الأعمال الصالحة، والزكاة تطبيق عملى لكل عمل صالح.. إذ كان المال والتصرفات الدائرة حوله، هو المحك الذي تظهر به أخلاق الناس، لما للمال من سلطان على النفوس، في جمعه، وفي إنفاقه.
قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
الإشارة هنا إلى هؤلاء المحسنين، الذين ذكرتهم الآية السابقة، ووصفتهم بأنهم هم الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون باليوم الآخر، إيمانا مستيقنا.
وهؤلاء المحسنون، إنما أحسنوا، لأنهم على هدى من ربهم، إذ أنهم أقبلوا على اللّه طالبين الهدى، فأقبل اللّه سبحانه عليهم، وأمدهم بما طلبوا، وأقامهم على طريق الهدى، وبهذا كان حظهم الفلاح، والفوز برضوان اللّه.
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}.
{من} هنا للتبعيض، والمراد من هذا، بيان حال أولئك الذين لم يطلبوا الهدى، ولم يلتمسوا الأسباب التي تفتح لهم الطريق إليه.. فالناس فريقان:
فريق طلب الهدى، فهداه اللّه، وكان من الفائزين المفلحين، وفريق لم يرفع إلى الهدى رأسا، بل أقام وجهه على الضلال، وسعى حثيثا إليه، وأمسك بكل ما يحول بينه وبين الاتجاه نحوه.. وبدلا من أن يغشى مجلس الإيمان، ويستمع إلى آيات اللّه، ويتلقى منها النور الذي يضىء جوانب نفسه المظلمة، ويجلّى عنها غواشى الضلال- بدلا من هذا، شغل نفسه، بتلك الأحاديث اللاهية التافهة، يترضى بها أهواءه، ويشبع بها جوع نزواته، فضلّ بذلك عن سبيل اللّه، واتخذ آيات اللّه التي يسمعها هزوا، لأنها ترد على إنسان قد غرق في اللهو، وسكر بما يتعاطاه من كئوس الضلال، فلا يرى فيها إلا ما اعتاد أن يراه، ويتعامل به من لهو وضلال.. فهذا الضال ومن على شاكلته، لا جزاء لهم إلا النار.
والضمير في قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَها} يمكن أن يعود إلى آيات الكتاب في قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} كما يمكن أن يعود إلى سبيل اللّه في قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
إذ كانت سبيل اللّه هى التي أقامتها آيات اللّه، وكشفت للناس معالم الطريق إليها.
وفي قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} إشارة إلى أن ضلال هذا الضال لم يكن عن نظر، وتدبر، وتقدير، وإنما كان عن جهل، وغباء، وتسلّط أهواء. فقد يطلب الإنسان الهدى، ثم لا يهتدى إليه، لسبب أو لأكثر، ومثل هذا الإنسان لا بد أن يجد الطريق إلى الهدى في يوم من الأيام، ما دام جادّا في الطلب والبحث.. أما من ترك لنفسه الحبل على الغارب، وأخذ بكل ما يلقاه، فإنه لن يجد إلا ما تميل إليه نفسه من أهواء وضلالات.
وفي إفراد الضمير في قوله تعالى: {يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ثم جمعه في قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} إشارة إلى أن تحصيل الهدى، أو الضلال، إنما هو أمر ذاتى، يتعلق بذات الإنسان وحده، ويحاسب عليه وحده.. أما حين يقع الحساب، فإنه يجتمع مع من هم على شاكلته.. فإن كان من أهل الإيمان، والإحسان، اجتمع إليهم، وشاركهم النعيم الذي هم فيه، وإن كان من أهل الهوى والضلال، اجتمع مع أهل الهوى والضلال، وشاركهم ما يلقون من نكال، وعذاب.
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً.. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}.
هو بيان كاشف لحال هذا الذي يتخذ لهو الحديث، ليصل عن سبيل اللّه، ويتخذ آيات اللّه وسبيل اللّه هزوا. فهذا الضال إذا تليت عليه آيات اللّه، أعرض عنها، مستكبرا أن يتلّقى ما يلقى إليه من النبي، ومستنكفا أن يلقاه أحد بنصح أو إرشاد.
وفي قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها} إشارة إلى أنه يمضى في طريقه، حين تتلى عليه آيات اللّه، كأن شيئا لم يطرق سمعه، فلا يتلفت إلى مصدر هذا الذي يلقى إليه، ولا يتوقف ليسأل: ماذا هناك؟ وماذا يراد منه؟.. هكذا شأن الذين استبدّ بهم الكبر، وركبهم الغرور.
وفي قوله تعالى: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً}.
الوقر: الصمم.
وفي هذا توكيد للصورة التي صورت بها حال هذا الضال الذي أعرض عن آيات اللّه، ولم يأبه لما يسمع منها، حتى لكأن في أذنيه صمعا.. إذ هو والأصم على سواء، في هذا الموقف.
وفي قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} وعيد لهذا المتكبر، العنيد، الأثيم إنه لا يلقى إلا العذاب الأليم، ولا يسمع بعد هذا الإعراض، إلا ما يخرق أذنيه من نذر العذاب والبلاء.. وأنه إذا كان قد أصم أذنيه عن سماع الهدى، فإنه لن يستطيع أن يصمّها عن هذه البشرى التي تزف إليه.
فإن أحدا لا يصمّ أذنيه عن حديث يحمل إليه بشرى مسعدة.. ويا لها من بشرى.. إنها العذاب الأليم! وفي إقامة البشرى مقام النّذير، الذي يفتضيه المقام، إعجاز من إعجاز القرآن.. حيث يستدعى بهذه البشرى، ذلك الذي أصم أذنيه عن سماع آيات اللّه، ومضى إلى حيث يأخذ مكانه في مجلس اللهو والضلال.. ثم ما إن يتوقف عند سماع كلمة البشرى ويفتح أذنيه لها، حتى تحمل إليه معها ما يسوؤه، فيسمعه مكرها.
فقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ} هى اليد القوية التي أمسكت به، وهى المعجزة القاهرة التي فتحت أذنيه، وألقت فيها بهذا النذير: {بِعَذابٍ أَلِيمٍ}! قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وعلى حين يسمع هذا الضال ما سمع.. مكرها- من هذا النذير الذي أمسك به، وفتح أذنيه، فإنه يسمع- مكرها أيضا، وما زالت أذناه مفتوحتين- هذه البشرى المسعدة حقا، ولكنها ليست له، وإنما هى لأعدائه، الذين يسوءه أن ينالهم خير.. فهؤلاء الأعداء، هم المؤمنون، وقد أعدّ اللّه لهم جنات النعيم، خالدين فيها.. وذلك ما وعدهم اللّه به، وهو وعد حق، لا يتخلف أبدا، لأنه من اللّه العزيز، الذي يعنو لعزته كل شىء، الحكيم الذي يقوم أمره على الحكمة، فلا إفراط، ولا تفريط.
و{وعد} منصوب بفعل مقدر، تقديره: وعد اللّه وعدا حقا.. وقد جاء النظم القرآنى على تلك الصورة الموجزة المعجزة، فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى فاعل الفعل.
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
فاللّه العزيز الحكيم، الذي وعد عباده المؤمنين جنات النعيم، لن يخلف وعده، لأنه ذو السلطان الذي يقوم على كل شىء، وأنه لن يعجزه شيء حتى يخلف ما وعد به.. وإن من دلائل عزّته، ونفوذ سلطانه، أنه خلق السموات، وأقامها بغير عمد، وهذا أبلغ في الدلالة على القوة والعزة، والسلطان.
وقوله تعالى: {تَرَوْنَها} يمكن أن يكون حالا من السموات.. كما يمكن أن يكون في محل جر صفة لعمد، أي بغير عمد مرئية لنا، ويكون المراد بالعمد، الأسباب التي أقام اللّه بها السماء، والتي تقوم مقام العمد في تقديرنا.
وقوله تعالى: {وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}.
الرواسي الجبال، وإلقاؤها: نزولها من أعلى، وأخذها مكانا بارزا فوق الأرض، كما يقول تعالى: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها} [10: فصلت].
والميد، والميدان: الاضطراب.
فكما أن السماء تقوم على عمد غير مرئية، تقوم الأرض كذلك مرتكزة على عمد مرئية هى الجبال.. ولو لا ذلك لاضطربت الأرض، وزالت عن مكانها، وضاعت معالمها.. وفي هذا إشارة إلى أن السموات محمولة على أعمدة من قدرة اللّه، لا تراها الأبصار، وإنما تعرفها البصائر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [41: فاطر].
والمراد بالسماوات، هو العالم العلوىّ، الذي يقوم فوق عالمنا الأرضى.
فحيث كان الإنسان من الأرض، فهو واقع تحت العالم العلوىّ.. وفي هذا العالم كواكب ونجوم، لو اقتربت من الأرض، أو اقتربت منها الأرض، لما كانت الأرض إلا نملة في ظلّة من الجبال، قائمة بلا عمد!.. هذا ما تراه عين العلم الحديث فيما بين السماء والأرض.. فإذا حجبت عن العيون هذه الرؤية الكاشفة، فإنها ترى السماء قائمة على الأرض، كأنها السقف المرفوع.
وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
فى العدول من الغيبة في قوله تعالى {خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} إلى الخطاب في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
في هذا استدعاء للجاحدين الكافرين أن يشهدوا جلال اللّه، وأن يروا آياته في هذه الظاهرة التي تطلع عليهم في كل حين، وأنهم إذا كانوا يجدون وجها للمحاولة في خلق السموات والأرض، وأن يقولوا: هكذا قامت السموات والأرض من غير مقيم لهما، فإنهم لا يجدون ما يقولون في إنزال الماء من السماء، وفي إخراج النبات من الأرض.. إن ذلك خلق متجدد يحدث كل لحظة من لحظات الزمن.. فإذا سألوا من أنزل هذا الماء؟ أو من أخرج هذا النبات؟ لم يكن ثمّة إلا جواب واحد، هو اللّه ذو الحول والطول، الذي خلق السموات والأرض.
فإنزال الماء من السماء، وإنبات النبات من الأرض، شاهد قريب حاضر، على وجود اللّه وقدرته، يستدل به على شاهد بعيد أشبه بالغائب، هو خلق السموات والأرض.. فناسب ذلك أن يكون ضمير الغيبة مع خلق السموات والأرض، وأن يكون ضمير الحضور مع إنزال الماء وإنبات النبات.
وقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} الضمير في {فيها} يعود إلى الأرض، وفي التعبير عما تخرج الأرض من ثمرات، بالزوج الكريم- إشارة إلى أن كل ما يجىء من ثمرات طيبة كريمة، هو نتيجة لمزواجة بين ذكور النبات وإناثه، كما يتزاوج الناس، والحيوان.. وإن أي ثمر لا يتولد عن لقاح بين الذكر والأنثى، هو ثمر خسيس ردىء، كما تتوالد بعض الحيوانات الدنيا بانقسام الخلية.
قوله تعالى: {هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
الإشارة هنا، إلى ما عرضته الآية السابقة، من آيات صنع اللّه، وآثار رحمته.
والخطاب المشركين، الذين يعبدون غير اللّه.
وفي هذا الخطاب، استدعاء للمشركين، أن ينظروا إلى هذا الوجود، الذي قام بقدرة اللّه، ثم لينظروا ما لمعبوداتهم من خلق.. وهنا يسقط في أيديهم حيث لا يجدون لمبعوداتهم أثرا.. بل إنهم ليجدون معبوداتهم بعضا من خلق اللّه.. ثم إنهم مع هذا لا يزالون متعلقين، بمعبوداتهم تلك، مقيمين وجوههم إليها وذلك هو الضلال المبين، الذي لا يرجى لصاحبه أن يجد الهدى أبدا.. وإن الذي يقف هذا الموقف، ويركب هذا الطريق المهلك، لهو ظالم لنفسه، جائر على فطرته.


{وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
اختلف في {لقمان} هذا، اختلافا تناول الزمان والمكان اللذين عاش فيهما، كما تناول الصفة التي كان عليها، وهل كان نبيا، أم كان حكيما؟
وهل هو من بنى إسرائيل، أم من غير بنى إسرائيل؟.
والقرآن الكريم، لم يصرح بأنه كان رسولا، ولم يذكره فيما ذكر من أنبياء ورسل، ولم يصله بنسب إلى إبراهيم، كما وصل أنبياء بنى إسرائيل به.
ومع هذا، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون لقمان نبيا، فقد آتاه اللّه الحكمة، وهى نعمة عظيمة حلّى اللّه تعالى بها أنبياءه، فقال تعالى في داود عليه السلام: {وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [251: البقرة].
وقال تعالى في شأن الحكمة، وجلال قدرها: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [269: البقرة].
ومما يرجّح الرأى عندنا بأن لقمان كان نبيا، أن القرآن الكريم سمى سورة باسمه، كما سمى سورا باسم إبراهيم، ومحمد، ويونس، وهود، ويوسف، ومريم.. وهذه التسمية تشير إلى ما للمسمى من شأن وقدر، سواء في مقام الخير أو في مجال الشر.. كما سميت سورة باسم أبى لهب، إذ كان علما بارزا من أعلام الضلال والكفر.. فهو في مجتمع الضلال إمام الضالين، كما أن النبي في مجتمع المؤمنين، هو إمام المؤمنين.
ثم إن الحكمة التي أوتيها لقمان، حكمة ربانية، وليست من الحكم المكتسبة، التي يحصلها الحكماء والفلاسفة، بالبحث والنظر، وإنما هى فضل من فضل اللّه، كالرسالة، والنبوة. اللذين لا تكتسبان بتحصيل واجتهاد.
وقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}.
أن هنا تفسيرية، والجملة بعدها مفسرة للحكمة التي آناها اللّه لقمان، وهى أن يكون عبدا شكورا للّه.. فشكر اللّه هو رأس الحكمة، إذ لا يكون الشكر إلا عن إيمان وثيق باللّه، وعن رضا مطلق بكل شيء يصيب الإنسان، ولهذا كان شكر اللّه من أعظم الصفات التي يخلصها للّه سبحانه وتعالى، على المرضىّ عنهم من عباده، كما يقول سبحانه في إبراهيم: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [120- 121: النحل].
كما كان الشكر دعوة من دعوات اللّه إلى رسله وأنبيائه، كما يقول سبحانه، لداود: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً... وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [13: سبأ].
فالشكر، ثمرة الإيمان، ومن حرم الشكر، فقد خلا قلبه من الإيمان.
ولهذا قرن القرآن الكريم الشكر بالإيمان، وجعلهما على كفتى ميزان، سواء بسواء.. فقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [172: البقرة].
وقال سبحانه: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [152: البقرة].. وهذا ما جاء عليه قوله تعالى في هذه الآية: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
أي أن عائد الشكر، إنما يعود إلى الشاكر نفسه، ليس للّه منه شىء، فإن اللّه غنى عن العالمين، لا ينفعه شكر من يشكر، ولا يضره كفر من يكفر، كما يقول سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [7: الزمر].
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}.
فإن قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} يفهم منه أنه شكر للّه، بما آتاه اللّه من حكمة، فكان بهذه الحكمة من المؤمنين باللّه، الشاكرين له، وهو إذ كان حكيما إذ آمن باللّه وشكر له، فإنه كان حكيما كذلك إذ نفع بهذه الحكمة أقرب الناس إليه، وآثرهم عنده، وهو ابنه، فدعا ابنه إلى الإيمان باللّه، وإلى إخلاء قلبه من الشرك، حتى يلحق بأبيه، ويكون من الشاكرين للّه، ثم حذّره مغبة الشرك، وما يقع على الإنسان منه من ظلم عظيم، إذ يصيبه في مقاتله، ويورده موارد الهالكين.
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
جاءت هاتان الآيتان معترضتين وصية لقمان لابنه، وذلك لتكتمل بها الحكمة، التي كان من أولى ثمراتها وأطيبها، شكر الخالق المنعم، ثم تكون الثمرة الثانية، وهى شكر الوالدين، وذلك ببرهما، والإحسان إليهما إذ كان لهما على الولد فضل الولادة، والتربية، والرعاية، ومن حق كل ذى فضل أن يشكر ويحمد ممن أحسن إليه.. وفي المأثور: {لا يشكر اللّه من لا يشكر الناس}.
ووصاة اللّه للإنسان بوالديه، هى أمر، وعزيمة، وتكليف، إذ كثيرا ما ينكر الإنسان هذا الحق الذي لوالديه عليه، كما أن كثيرا من الناس يكفر باللّه، ويجحد إحسان اللّه إليه، وفضله عليه.
وفي قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} إشارة إلى أخفى لون في الصورة التي نبت منها الولد، ونشأ في حجر والديه، وإلفات للولد إلى هذا الخيط الواهي من الحياة التي كانت له، والتي أمسكت به الأم، نطفة ثم علقة.. ثم ما زالت تمسك بهذا الخيط في حرص وحذر، وتفرز له من عصارة حياتها ما يزيده على الأيام قوة ونماء، حتى تفتق عنه رحمها وليدا، طفلا، ثم ما زالت به تحمله بين يديها، وتضمه إلى صدرها، وترضعه من لبنها، حتى يفطم، ويرفع فمه عن هذا الينبوع الذي يمتص منه رحيق الحياة، ليستقبل بعد هذا ما يمده به والداه من طعام، حتى يشب ويكبر، ويستطيع أن يسعى سعيه في الحياة!.
إنها رحلة استمرت نحو عامين، قطعها هذا الإنسان دائرا في فلك أمه، بين حمل ورضاعة.
والوهن: الضعف.. ووهنا على وهن: أي ضعفا على ضعف.. وهو حال من الفاعل والمفعول معا في قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ}.
فالضعف الذي تبدأ به حياة الجنين، تتلقاه الأم، فيصيبها منه ضعف، هو ضعف معاناة الحمل.
فيجتمع ضعف الجنين، مع ضعف الأم الوارد عليها منه.
والفصال: الفطام، حيث يفصل الطفل عن جسد أمه، الذي يظل ملصقا به نحو عامين، في بطنها، وعلى صدرها، وبين ذراعيها.
وفي قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} تفسير للفعل {وَوَصَّيْنَا}.
إذ الوصاة تحمل دعوة إلى هدى وخير، ومضمون الوصاة هنا هو الشكر للّه وللوالدين.. وقدم شكر اللّه على شكر الوالدين، لأن اللّه سبحانه هو الخالق وحده، وإذا كان للوالدين شيء هنا فهو للّه أيضا، فما هما إلا من خلق اللّه، وما هما إلا أداة من الأدوات العاملة بقدرة اللّه وبأمره.. ومع هذا، فإن ذلك عمل من عملهما، يجزيهما اللّه عليه، وهو حق للّه جعله اللّه لهما على أبنائهما، فضلا منه- سبحانه- وإحسانا.
وقوله تعالى: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، له كلّ شيء في هذا الإنسان الذي ولد لهذين الأبوين، وأن هذه المشاركة التي تبدو للوالدين في إيجاد الولد، ليست إلا مشاركة ظاهرية، إن أعطت الوالدين حقّ الإحسان إليهما، والبرّ بهما، فلن تعطيهما حقّ العبادة، على نحو ما كان عليه معتقد أولئك الضالين، الذين يعبدون أصولهم من آباء وأجداد! ومن جهة أخرى، فإن قوله تعالى: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} تنبيه إلى هذا الحق الذي للوالدين على الولد، وأنه إذا قصّر في أدائه لهما، فإنه سيحاسب عليه يوم الحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويعرضون عليه.. لا تخفى منهم خافية.
وفي قوله تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} إشارة إلى موقف آخر، مختلف عن الموقف الأول، الذي يكون فيه الابن مؤديا حق والديه، قائما ببرّهما والإحسان إليهما.. وفي هذا الموقف يكون الأبوان على غير الطريق المستقيم، على حين يكون ابنهما على طريق الهدى والإيمان.. إنهما مشركان باللّه، وهو مؤمن.. وقد رأيا في إيمان ابنهما باللّه خروجا على طاعتهما، واستخفافا بدينهما لذى يدينان به، وخروجا على تقاليدهما الموروثة عن الآباء والأجداد.
وهنا يقع الصدام، ويكثر الشد والجذب.. فالأيوان يؤرّقهما هذا الذي استحدثه ابنهما من دين، والابن على يقين من أمره، وعلى بصيرة من دينه، وإنه لا سبيل إلى أن يجمعه وإياهما طريق، إلا أن يؤمنا باللّه، وهيهات..!
والابن المؤمن هنا، بين حقين يتنازعانه.. حق اللّه، وهو الإيمان به، وحق الوالدين، وهو طاعتهما، والامتثال لما يدعوانه إليه من شرك وضلال.
وإنه لا خيار.. فإن حق اللّه أولى وألزم.. إنه يجبّ كل حق، ويعلو على كل واجب.. ولكن مع هذا، فإنه يبقى- مع الاحتفاظ بحق اللّه، والوفاء به- اللطف، والرفق، والمحاسن.. فإن ذلك لا يجور على حق اللّه ولا يؤثر في الإيمان الذي عمر به القلب: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما.. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً}.
فهذا هو أعدل موقف يأخذه الإنسان هنا، فيحتفظ فيه بحق اللّه، ولا يجحد بعض ما لأبويه من حقوق.
روى عن سعد بن أبى وقاص- رضى اللّه عنه- أنه كان يقول: كنت رجلا برّا بأمى، فلما أسلمت قالت يا سعد: وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعنّ دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتغيّربى، فيقال: يا قاتل أمه!! قلت لا تفعلى يا أمّه، فإنى لا أدع دينى هذا لشىء.. فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها.. فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه، تعلمين واللّه لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت دينى هذا لشىء فإن شئت فكلى، وإن شئت لا تأكلى، فلما رأت ذلك أكلت!- وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ} توكيد لما جاء في قوله تعالى: {فَلا تُطِعْهُما} ومعطوف عليه.
وسبيل من أناب إلى اللّه، هو سبيل المؤمنين، كما يقول سبحانه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} [115: النساء].
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قطع لهذا الجدل، وذلك الخلاف حول الإيمان والشرك، فيمايدور بين الابن وأبويه، وإحالة لهذا الخلاف إلى اللّه سبحانه وتعالى، ليحكم فيه، ويجزى كلّا بما عمل.
قوله تعالى: {يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
المثقال: ما يوزن به.. وحبة الخردل: بذرة نبات الخردل.
عادت الآيات، لتصل ما انقطع من عظة لقمان لابنه.. وقد حذرته الآية السابقة من أعظم خطر يتهدد الإنسان، ويقضى عليه، وهو الشرك باللّه.
وفي هذه الآية، يكشف لقمان لابنه عن علم اللّه، وبسطة سلطانه، حتى يعبده عن علم به، ومعرفة بما ينبغى له من كمال وجلال.
فاللّه سبحانه، الذي يستحق أن يعبد، وأن يفرد بالعبادة، هو المالك لهذا الوجود، العالم بكل صغيرة وكبيرة فيه. حتى الحبة من الخردل، وهى من الصغر بحيث لا تكاد تمسك بها الأصابع.. هذه الحبة، إن تكن في أي مكان في هذا الوجود.. إن تكن في صخرة، أىّ صخرة من صخور الأرض، أو تكن في السموات التي لا حدود لها، أو تكن في الأرض، على أي عمق منها، وفي أي مكان فيها- هذه الحبة الضالة الغارقة في بحر هذا الوجود، يأتى بها اللّه، ويخرجها من هذه الأعماق السحيقة في أحشاء الكون.. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} ينفذ نور لطفه إلى كل شىء، {خبير} متمكن من كل شىء، ويعلم كل شيء علما كاشفا.
قوله تعالى: {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
وبعد أن كشف لقمان لابنه عن قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته، دعاه إلى عبادته، حتى إذا عبده كانت عبادته عن علم ومعرفة بمن يعبد.. وذلك مما يعطى العبادة مفهوما صحيحا، فيخشع لها القلب، وتسكن بها الجوارح، وتنتعش بها المشاعر.. أما العبادة التي لا تقوم على علم، فهى كالزرع الذي لا يقوم على سوق، أو جذور.
والصلاة، هى رأس العبادات في كل شريعة، وهى عمود الدين، في كل دين.. ولهذا كان مقامها هنا هو المقام الأول: {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ..}.
ثم جاء بعد ذلك، ما تعطيه الصلاة من ثمر، وهو إصلاح كيان الإنسان، وتنقيته من الشوائب والأدران، فيصبح رسولا كريما من رسل الهدى والخير في الناس، حيث ائتمر بالمعروف، وانتهى عن المنكر، وهذا ما يدعوه إلى أن يكون داعيا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، إن لم يكن بلسانه، فيعمله، وبما يجد الناس فيه، من الأسوة الطيبة والقدوة الصالحة!! فمن ائتمر بالمعروف وانتهى عن المنكر، كان أشبه بالمرآة الصقيلة يرى الناس عليها وجه الخير والإحسان، فيتمثلونه ويتخذونه قدوة لهم.
وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ}.
إلفات إلى هذا الزاد الطيب الذي يتزود به الإنسان في الحياة، ويستعين به على الائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، وذلك الزاد، هو الصبر.. فإنه إذا قل حظ الإنسان من الصبر، فلن يجد العزم الذي يمضى به التكاليف ويقضى به الحقوق.
ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى الصبر دعوة مؤكدة، حيث يستدعى الصبر عند كل عظيمة، ويهتف به عند كل أمر ذى شأن.. ففى ميدان القتال.. لا عدّة للمؤمن أعظم ولا أقوى من الصبر.. {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
.. (46: الأنفال).. {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [125: آل عمران] {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ}.
إنه لا عاصم للإنسان من الخسران، إلا أن يعتصم بالإيمان، والصبر.
والصبر، مع أنه مطلوب في كل حال، فإن الحاجة إليه أشد، والطلب له أقوى وألزم، حين يواجه المرء ما يكره من عواقب الأمور.. فهنا يكون الإنسان أمام امتحان قاس لإيمانه بربه وتوكله عليه، وتفويض أمره كله إليه.
فإن لم يجد من الصبر ما يمسك عليه إيمانه، ويقيم وجهه على الرضا والتسليم للّه، استبدّ به الجزع، وقتله الهمّ، ووقعت بينه وبين ربه غيوم من التهم والظنون.
وهذه أول مزالق الشرك والكفر باللّه.
وفي قوله: {إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الإشارة {ذلك} إلى الصبر.
أي إن ذلك الذي تدعى إليه، وهو الصبر، هو من عزم الأمور، أي من جدّها، وصميمها، ولبابها.. وأنه مما ينبغى أن يحصّله الإنسان، ويربّى نفسه عليه، ويروضها على احتمال أعبائه.. إنه لن يرتفع الإنسان عن مستوى هذا التراب، إلا إذا حلّق بهذين الجناحين: الإيمان، والصبر..
قوله تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ}.
الصّعر: ميل الخدّ كبرا وتعاليا.
والمرح: الخفّة عن تيه، وعجب.
وإنه من كمال الإنسان أن يجمّل ظاهره، كما يجمل باطنه.. إذ كان الظاهر هو بعض ما يقرزه الباطن، وينضح به.
وليس صعر الخد، والتبختر في المشي، إلا من مشاعر التعالي، والعجب، وذلك مما يعزل الإنسان عن الناس ويعزل الناس عنه، ولا يكون من هذا إلا الجفاء، ثم العداوة والبغضاء.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} إشارة إلى أن صاحب الكبر، والتيه، كما يلقى الكراهية، والنفور من الناس، فإنه يلقى البغض من اللّه، والبعد عن مواقع رضاه.. لأن الكبر مفتاح كل رذيلة، وباب كل شر وضلال.. وما أوتى المشركون الذين تحدّوا رسالة الإسلام، وعموا عن مواقع الهدى منها- إلا من كبرهم، وعجبهم بأنفسهم، وبما زينت لهم أهواؤهم.
قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ.. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} هو من بعض ما يجىء من التيه والكبر من شر.. حيث يخرج الإنسان في مشيه عما اعتاد الناس في مشيهم، فيصرع أو يبطىء لغير داعية، إلا أن يرى الناس أنه على غير شاكلتهم.. كذلك رفع الصوت، وإطلاقه على مداه، من غير سبب، هو استخفاف بالجماعة، وخروج على مألوفها، وإلفات لهم بهذا الصوت المدوى، إلى مصدره!.
والقصد في المشي، هو الأخذ بالوسط منه، فلا إسراع ولا إبطاء، ما دام الإنسان على حال لا تقتضى هذا أو ذاك، ولا تستدعيه.
وفي قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} إشارة إلى كسر حدة الصوت حياء من الناس أن يأتى هذا المنكر- وهو رفع الصوت- أمامهم، تماما، كما يغض الإنسان بصره عن الأمور المنكرة، حياء من اللّه، وحياء من الناس!- وفي قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} تنفير من رفع الصوت والخروج به على حدود الحديث المدار بين الجماعة- ولكأن هذا الذي يطلق صوته على مداه في مجلس من المجالس، هو حمار، أطلق صوته، فقطع على الجماعة حديثها.. فليكن مثل هذا الحمار إن شاء!.


{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ}.
كانت قصة لقمان، وما آتاه اللّه من حكمة، عرف بها ربه، وأقام كيانه كله على حمده وشكره، ثم ما كان من وصاته لابنه، ورسم معالم الطريق إلى الخير، والهدى، له- كانت هذه القصة معرضا للمشركين يرون فيه مواقع رحمة اللّه في عباده، وما يسوق إليهم من نعمة العلم الذي يعرفون به ربّهم فيما جاءهم به رسول اللّه من آيات اللّه..، إن ذلك هو خير ما يصيب الإنسان في حياته، وما يحصّل من رزق في دنياه.. وليس المال، ولا الجاه، بالذي يرفع منازل الرجال، وينزلهم منازل الرضوان عند اللّه، وإنما العلم- والعلم وحده- هو الذي يحقق إنسانية الإنسان، ويعلى مقامه في الناس.
وها هو ذا رسول اللّه، يحمل الحكمة إلى هؤلاء المشركين، ويكشف لهم بها الطريق إلى اللّه ولكنهم مع هذا، يأبون أن يقبلوا هذا الخير المساق إليهم، وأن ينتفعوا به.
والآيات هنا تعرض صورا من مظاهر قدرة اللّه، فيها الحكمة، لمن يعنيه أن يكون من أهلها.
فهؤلاء المشركون، تظلّهم نعم اللّه، بما سخر في السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وتغمرهم آلاؤه بما سخر لهم في الأرض من حيوان، وما أجرى فيها من ماء، وما أخرج منها من نبات- ومع هذا فإنهم لا يلتفتون إلى شيء من تلك النعم، وإن التفتوا إلى شيء منها لم يكن لهم منه عبرة وعظة.
بل هم على ما هم عليه من ضلال وعمى، لا تزيدهم الآيات إلا كفرا وعنادا، ولا يزيدهم النور إلا عمى وضلالا.
وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً}.
الإسباغ: الإفاضة والشمول، عن سعة وكثرة.. والنعم السابغة:
الكثيرة المتعددة- ودرع سابغة: أي ضافية، كاسية، ومنه قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} [11: سبأ].
والنعم الظاهرة: ما يعرفها الإنسان، ويلمسها بحواسه، أو يدركها بعقله.
والنعم الباطنة، هى ما لا يعلمه الإنسان من أسرار هذا الوجود الذي يعيش فيه.
والنعم الظاهرة قليلة لا تكاد تذكر إلى جانب النعم الباطنة، التي تغمر الإنسان ولا يشعر بها، ولا يعلم من أمرها شيئا.. وما كشف عنه العلم من أسرار الحياة، لا يعدو أن يكون سطورا من مقدمة كتاب الوجود، وما فيه من أبواب وفصول.
وفي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} إشارة إلى هؤلاء المشركين، وما هم فيه من لجاج، وعناد، مع ما يتلى عليهم من آيات اللّه.. إنهم يجادلون ويجادلون، وكل ما معهم من أسلحة في هذا الميدان هو الجهل والعناد.. إذ ليس معهم {علم} حصّلوه بالنظر والتأمل، ولا {هدى} تلقوه من الرسول الذي جاءهم بالبينات من رب العالمين ولا {كتاب منير} تلقوه عن رسول من رسل اللّه، وانتفعوا بما فيه من علم وهدى.. ومع هذا فهم يجادلون في اللّه، وفي تصورهم لذاته وصفاته، على هذا النحو من التصور الفاسد، الذي يجعل اللّه على مستوى بشرى، كشيخ قبيلة، أو ملك من ملوك فارس أو الروم، أو أمير من أمراء الأمصار على تخوم مملكتى فارس والروم!.
وفي قوله تعالى: {وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} إشارة إلى ما بين يدى أهل الكتاب من كتب سماوية، كان من شأنها أن تكون كتبا منيرة لهم، تكشف ظلمات الجهل، وتبدو غياهب الضلال، ولكن أهلها غيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي فيها، وأوقعوا الناس منها في حيرة وعمى!.
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ}.
هذا موقف من مواقف الضالين في مواجهة الحق، وفي لقاء من يدعوهم إليه.. وهم في هذا الموقف إنما يجادلون في اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. فإذا دعوا إلى اللّه، وإلى اتباع ما أنزل اللّه، {قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا..}.
تلك هى حجتهم، وهذا هو مستندهم.. إنهم أوفياء لآبائهم، حريصون على الاحتفاظ بتراثهم، وليس شأنهم شأن من يتنكر لقومه، ويخرج على تقاليد الآباء والأجداد، فذلك فوق أنه عقوق: هو عدوان على تلك الجامعة العصبية التي تجمع أبناء القبيلة تحت راية واحدة، سواء أكانت راية حق أو باطل.
لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا
إنه لا منطق ولا عقل، ولا دليل ولا برهان.. وإنما هى عصبية عمياء، كما يقول سبحانه وتعالى، على لسانهم: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [23: الزخرف].
وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ} هو استفهام توبيخى لهؤلاء المشركين الذين يتلقون معتقدهم عن آبائهم، دون أن يكون لهم نظر أو رأى فيما تلقوه، ودون أن يتعرفوا إلى حقيقة هذا المعتقد، وما فيه من حق أو باطل، ومن خير أو شر، وإنما يأخذونه كما هو، عادة من العادات، وتقليدا من التقاليد.
فلو أن آباءهم هؤلاء جاءوا إليهم على صورة شياطين يدعونهم إلى جهنم ويفتحون لهم أبوابها، لاستجابوا لهم، ولاقتفوا آثارهم، دون وعى، أو التفات إلى النار التي هم مدفوعون إليها، إنه التقليد الأعمى، والمتابعة الحمقاء، التي يسلّم فيها المرء وجوده كله لغيره، دون أن يجعل لعقله حق النظر والاختيار.
وإنه لعدوان أثيم على الجانب الروحي في الإنسان، وذلك بحرمانه من أن يذوق بوسائله الإدراكية، والشعورية، والوجدانية، ما يغذّى هذا الجانب ويرضيه تماما كما يفعل الإنسان فيما يتصل بغذائه الجسدى، فهو الذي يتخير طعامه، ويذوقه، ويمضغه، فإن استساغه تركه يأخذ سبيله إلى جوفه، وإن مجّه، أو استخبثه، ألقى به من فيه. وحمى جوفه من سوء ما ينحم منه.
فكيف يقبل الإنسان أن يدع لغيره اختيار ما يغذّى روحه ومشاعره، ووجدانه؟ إن ذلك أشبه بالتغذية الصناعية، التي يعيش عليها الأطفال أو المرضى، لا يفيد منها الجسم إلا بالقدر الذي يمسك عليه الحياة.. هذا إذا كان الغذاء الصناعى طيبا سليما.. فكيف به إذا كان خبيثا فاسدا؟.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وإذا كان هؤلاء المشركون قد أسلموا وجههم للشيطان، وأعطوه أيديهم، فأخذوا طريقهم معه إلى جهنم، فإن المؤمنين الذين أسلموا وجوههم إلى اللّه، فآمنوا به ثم أتبعوا إيمانهم بالعمل الصالح، الذي يقتضيه منهم إيمانهم- هؤلاء قد أمسكوا بحبل النجاة، الذي يعصمهم من الغرق، ويسلمهم إلى شاطىء السلامة والأمن.
وفي تعدية الفعل {يسلم} بحرف الجر {إلى} بدلا من اللام، كما في قوله تعالى {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في هذا إشارة إلى أن في هذا الإسلام معاناة، وصراعا داخليا في كيان الإنسان، حتى إن المرء ليقود نفسه ويدفعها دفعا إلى اللّه.. وذلك ما كان في أول الإسلام، حيث كان المسلمون تحت ظروف قاسية قاهرة.
والعروة: ما يناط به الشيء، ويعلق به، ومنه عروة القميص، وهى ما يدخل فيه لزر.. وجمعها عرى.
والوثقى: القوية، المتينة.. مؤنث الأوثق.. ومنها الثقة: وهى الشعور بالاطمئنان للشىء الموثوق به.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} أي إلى اللّه سبحانه المرجع والمآل، لكل أمر، فما يفعله الناس، وما يتلبسون به، من إيمان أو شرك، ومن خير أو شر، فإن إلى اللّه مرجعه، وعند اللّه الجزاء عليه.
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
فى هذه الآية مواساة للنبى، وعزاء له في قومه، الذين أبوا أن يستجيبوا له، وأن يمسكوا بحبل النجاة الممدود لهم.
وفي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} إشارة إلى أن هؤلاء المشركين الذي ظلوا على شركهم، بعد أن جاءتهم دعوة الحق، قد كانوا أهل فترة قبل الدعوة، أي غير واقعين تحت دينونة الحساب والجزاء، فلما بلغتهم الدعوة ولم يستجيبوا لها، لزمهم هذا الوصف، وهو الكفر، ووقعوا تحت دينونة الحساب والجزاء.. فكأنّ هذا الكفر الذي وصفوا بهم طارئ عليهم، مستحدث فيهم! ولهذا جاء الخطاب على أسلوب الشرط، الدال على الاستقبال والتجدد معا.
وفي قوله تعالى: {إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا} تهديد لهؤلاء المشركين الكافرين، ووعيد لهم بالعذاب الأليم، الذي هو الجزاء لأهل الشرك والكفر.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
بالانتقال من الخطاب إلى الغيبة- إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، وإن كان عند المشركين والكافرين، غائبا عنهم، لا يشهدون جلاله، ولا يستحضرون عظمته وقدرته، فإنه عليم بما توسوس به النفوس، وما تكنّه الصدور.
قوله تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ}.
هو وعيد بعد وعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا تركوا وما هم فيه من أمن وسلامة، وعافية في أموالهم وأنفسهم، فذلك ظل زائل، لا يلبث أن يزول،. ثم إنهم بعد هذا ليساقون سوقا، ويؤخذون قهرا إلى المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، وهو العذاب الغليظ يوم القيامة.
ووصف العذاب بالغلظ، كناية عن شدته، وقسوته.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
أي أن هؤلاء المشركين، لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض، لما وجدوا جوابا إلا جوابا واحدا، ولقالوا:- اضطرار أو اختيارا- خلقهن اللّه! فإنهم لن يستطيعوا أن يضيفوا خلق السموات والأرض إلى غير اللّه.. فهذه حقيقة أكبر من أن يتسع لها مراء الممترين، وافتراء المفترين.. إن المشركين ليعلمون أن لهذا الوجود خالقا، ولكن علمهم هذا قد تلبس بأوهام وظنون، واختلط بجهالات وضلالات، فلم يكشف لهم هذا العلم الطريق إلى اللّه، ولم يطلعهم على بعض ما للّه سبحانه من كمال وجلال.. ولهذا كان الطريق بينهم وبين اللّه ضيقا، مظلما، معوجا، تقوم عليه، وعلى جانبه المزالق والمعاثر.
وقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} هو دعوة إلى النبي، وإلى كل مؤمن، بالتعقيب على هذا الجواب بحمد اللّه، الذي خلق السموات والأرض، فهذا الخلق- ومنه خلق الإنسان- نعمة تستوجب الحمد والشكر للخالق.. كما يقول سبحانه:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} [1: الأنعام] وكما يقول سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [1: فاطر].
فبين يدى كل نعمة جليلة يجىء حمد اللّه، منبها إلى قدر هذه النعمة، ومذكّرا بما ينبغى على العباد إزاءها من حمد وشكران.. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} [1: الكهف]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [2: الفاتحة].
وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} هو إضراب عن كلام سابق محذوف، دل عليه المقام، وهو لم لم يحمد المشركون اللّه مع إقرارهم بأن اللّه هو الذي خلق السموات والأرض، فكان الجواب: لأنهم مستكبرون، ثم أضرب عن هذا الجواب بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وذلك ليدل على أن استكبارهم هذا كان عن جهل مطبق.. ولو كان معهم شيء من العلم لأسلمهم هذا الاعتراف إلى الإيمان باللّه، والانخلاع عن عبادة غير اللّه، ثم لحمدوا اللّه مع الحامدين، وشكروا له مع الشاكرين.
وفي إطلاق نفى العلم: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى أنهم لا يعلمون شيئا، أي شىء، من أي شىء.. علما نافعا، كاشفا.
قوله تعالى: {لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} هو إبعاد للمشركين عن اللّه، وقطع للظنون التي تدور في رءوسهم، حين يدعون إلى الإيمان باللّه، وإلى إفراده- سبحانه- بالعبادة، واختصاصه بالحمد، فيخيل إليهم من ظنونهم الفاسدة تلك، أن ذلك الإلحاح عليهم بالدعوة إلى اللّه، هو لحاجة اللّه إليهم، وافتقاره إلى عبادتهم.. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
فاللّه سبحانه له ما في السموات والأرض.. وإنه ليملك من هؤلاء المشركين ما لا يملكون هم من أنفسهم.. إن كل شيء فيهم، ولهم، ومعهم، هو من عند اللّه، وإلى اللّه مصيره.. فكيف يكون الخالق في حاجة إلى المخلوق؟ وكيف يكون المعطى في حاجة إلى من أعطاه؟ {ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [27: ص].
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} توكيد لاستغناء اللّه عن خلقه، وأن إيمانهم أو شركهم، وحمدهم أو كفرهم، لا ينفعه ولا يضره.. فهو {الغنى}.
غنى مطلقا، وهو {الحميد} المستحق للحمد، حمدا مطلقا، لكل ما كان منه في خلقه، من تقدير وتدبير.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ومما يكشف عن غنى اللّه الغنى المطلق، واستحقاقه الحمد، حمدا مطلقا، هو سعة ملكه الذي لا حدود له، وما للّه من تصريف في هذا الملك، كيف شاءت إرادته.. لا معقب لحكمه.
فلو تصور متصور أن كل ما في الأرض من شجر كان أقلاما، وأن كل مياه البحار قد أصبحت مدادا.. ثم أخذت هذه الأقلام تستملى من هذا المداد، وتكتب- من غير توقف- ما تتلقّى من كلمات اللّه- لما نفدت كلمات اللّه! وكلمات اللّه، هى مقدراته التي يقوم بها الوجود، وينشأ عنها كل موجود.
فبالكلمة، خلق اللّه كل شىء.. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس].
وفي قوله تعالى: {مِنْ شَجَرَةٍ} إشارة إلى استغراق كل ما في الأرض، شجرة شجرة، من كل جنس، وكل صنف من أصناف الشجر.
ولو جاء النظم القرآنى من شجر بالجمع بدلا {من شجرة} بالإفراد، لما دلّ على هذا الاستغراق، الذي يشمل كل شجرة في الأرض ولكان فيه متأول يتناول بعض الشجر دون بعض، أو الشجر الذي تستعمل منه الأقلام دون غيره مثلا.
وفي التعبير بكلمات اللّه- وهو جمع قلّة- بدلا من {كلام} الذي هو جمع كثرة، إشارة إلى أن القليل من كلام اللّه، وهو الكلمات، لا ينفذ، ولو فنيت في كتابتها الأقلام من كل شجر الأرض، وجفّت في مدّ هذه الأقلام بالمداد كلّ بحار العالم..! فكيف بالكثير من كلام اللّه.
هذا، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [109: الكهف].
وفي هذه الصورة، لم تذكر الأقلام التي تستملى من هذا البحر، اكتفاء بما جاء هنا من ذكر الأقلام.. فالصورتان تكمل إحداهما الأخرى، وليست إحداهما تكرارا للأخرى، كما يبدو ذلك في ظاهر الأمر.
ويلاحظ أن البحر هنا يمدّه من بعده سبعة أبحر، على حين أنه في سورة الكهف يمدّه بحر مثله.. وقد يبدو أن في هذا تناقضا عند من يأخذ بظاهر الأمور، ولا يتعمق النظر فيها.
إن الأمر قائم على الفرض، وكثير من مادة الفرض وقليلها سواء في تحقيق المطلوب منه، وهو الدلالة على سعة علم اللّه، وبسطة سلطانه، وامتداد ملكه، الذي لا ينفد، وأن بحرا واحدا، أو جزءا من هذا البحر ليكفى عند التجربة في الكشف عن سعة هذا العلم، وبسطة ذلك السلطان، وامتداد هذا الملك.
فالبحر الذي يمده من بعده سبعة أبحر، يواجهه الحكم ب قوله تعالى: {ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} مع السكوت عن نفاد ماء البحر.
والبحر الذي يمده بحر مثله، يواجهه الحكم بقوله سبحانه: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.
ففى كل صورة من الصورتين احتمال ترفعه الصورة الأخرى.
والاحتمال في قوله تعالى في سورة الكهف: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} هو أنه يمكن أن تنفد كلمات اللّه، لو جىء بمثلى هذا البحر، مددا، أو بثلاثة أمثاله.. وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى في سورة لقمان: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ}.
والاحتمال في قوله تعالى في سورة لقمان: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} هو أن الأبحر لم تنفد، وأن كلمات اللّه لم تنفد، وأنه لو نفدت الأبحر لنفدت كلمات اللّه، وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى في سورة الكهف: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ}.
وعد إلى الآيتين مرة أخرى:
{وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ}.
(لقمان) {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف) واجعل من الآيتين آية واحدة، تجد الأبحر قد نفدت، وما نفذت كلمات اللّه، وتجد كلمات اللّه لا نفاد لها، ولو مدّ البحر، لا ببحر واحد مثله، بل بسبعة أبحر!.
هذا كلام اللّه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
{وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} توكيد لسلطان اللّه، وتمكنه تمكن العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي تجرى أحكام عزّته على العدل والإحسان، لا العسف والجبروت، شأن كل عزّة لا تحكمها الحكمة.
قوله تعالى: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
كانت الآية السابقة معرضا فسيحا لقدرة اللّه، وإنه لا يحسن النظر فيه، والإفادة منه، إلا من أوتى بصرا نافذا، وبصيرة مشرقة، ثم كان معه- مع هذا- قلب مؤمن.
وفي هذه الآية، معرض محدود من معارض هذا الوجود، وهو معرض الخلق والبعث.. ثم أجمل هذا العرض في وحدة من وحدات الخلق، وهى الإنسان، في ذات واحدة، ونفس واحدة.
فهذا الإنسان، في خلقه، وبعثه، يكفى النظر إليه وحده، في الاستدلال على قدرة اللّه، وعلى أنه هو الخالق لهذا الوجود الذي لا حدود له.
فمن نظر إلى الإنسان، وإلى أصل نشأته، وكيف تنقل في الخلق، من حال إلى حال، حتى صار هذا الكائن القوىّ، العاقل، الذي يمخر عباب البحر، ويغوص في أعماق المحيط، ويحلق في أجواء السماء، بل ويطأ القمر بقدميه- من نظر إلى هذا الإنسان الذي تخلق من نطفة، تخلقت من من أخلاط مختلفة، ثم نظر إليه في قوته وجبروته، ثم أعاد النظر إليه وقد ردّ إلى الشيخوخة والهرم- رأى كمال قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته، وأنه وحده سبحانه، القادر على كل شىء، قدرة مطلقة لا يعجزها شىء.. وأن الذي خلق الإنسان، قادر على أن يخلق الناس جميعا، وأن الذي خلق الناس، قادر على أن يخلق السموات والأرض.. ففى القليل ما يدل على الكثير، وإن قطرة الماء لتحمل في كيانها خصائص ما في البحار كلها من مياه..!
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
إشارة إلى شمول سمع اللّه لكل شىء، وإحاطة بصره بكل شىء، يستوى في هذا خفيض الأصوات وجهيرها، وقريب الأشياء وبعيدها.. وأقرب مثل لهذا- وللّه المثل الأعلى- السمع والبصر، في كيان الإنسان.. فالسمع السليم، يستقبل ويسمع جميع الأصوات الواقعة تحت دائرة حسه، لا فرق في ذلك بين كلام الإنسان، وأصوات الحيوان، وحفيف الأشجار، وهدير الرعد، وخرير الماء.. وكذلك البصر السليم، يرى كل المرئيات التي تقع في دائرته، سواء في ذلك الجميل والقبيح، والأبيض والأسود، والمتحرك والثابت.
فإذا كان سمع الإنسان وبصره، يتّسعان لأكثر من شيء في وقت واحد، أفلا يكون في قدرة اللّه أن يسمع كل شىء، ويبصر كل شى ء؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يتخذ من الوسائل ما يرى بوساطتها الأشياء البعيدة التي لم تكن تراها عينه، ويسمع الأصوات الخفية التي لم تكن تسمعها أذنه- أفلا يكون ذلك مما تطوله القدرة الإلهية وتعمل به؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن ينقل الأصوات والمرئيات، لسمعه وبصره، من أطراف الأرض كلها في لحظة، أفلا تستطيع القدرة القادرة أن تفعل الكثير الذي لا حدود له في هذا المقام؟
وإذا كان بين العلماء الذين يملكون هذه الوسائل، وبين من يعيشون في حدود حواسهم الطبيعية- هذا المدى البعيد في مدركات السمع والبصر- أفلا يكون بين اللّه سبحانه وتعالى وبين خلقه، ما لا نهاية له من فروق؟ وإذن فما الفرق بين الخالق وما خلق؟ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟} [17: النحل].

1 | 2